الذخر الفاخر فی تعارض الاصل و الظاهر
-
معرفی اثر:
ألحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد وعلى آله الطّيّبين الطاهرين المعصومين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.
وبعد لايخفى على ذوي الهمم البالغة والخبير بالاُصول الظاهرة والعالم بالظواهر المعتبرة أنّ علم الفقه بعد أن كان مبتنياً على القواعد الفقهيّة والضوابط الثمينة الكلّية فلايمكن الإحاطة عليه إلاّ بعد الوقوف التامّ على تلك القواعد والقدرة على تطبيقها على مصاديقها ومواردها.
و المسلّم عند الجميع أنّه لايتحقّق ملكة الاستنباط على الفروع والجزئيات من دون القدرة على استنباط القواعد الفقهيّة، ومن أجل هذا صار البحث عن القواعد الفقهيّة من أهمّ المباحث الرائجة في الحوزات المقدّسة وقد اُلّف حولها تأليفات عميقة دقيقة وكان ببالي من قديم الأيّام حين التحصيل والتدريس، أنّ التحقيق العميق حول هذه القواعد لايسع للمحقّق إلاّ بعد الاطّلاع على موارد تطبيقاتها والتدبّر في أنّ الفقهاء هل استندوا إليها في جميع أبواب الفقه أو في موارد خاصّة وربّما تكون القاعدة بظاهرها عامّة مطلقة مع أنّ الفقهاء قد حدّدوا حجّيتها بموارد خاصّة ولم يتجاوزوا عن موارد معيّنة لأجل قرائن خاصّة، هذا من جانب ومن جانب آخر أنّ الاطّلاع على موارد التطبيق ربما يوجب تقييداً في مدلولها أو توسعة في مفهومها، فمثلا حينما تتبّعنا موارد التطبيق فى قاعدة الحرج نواجه هذا السؤال، أنّها هل تجري بالنسبة إلى جميع التكاليف اللزومية واجبة كانت أو محرّمة أم لا، بل تجري بالنسبة إلى الواجبات فقط؟ وهل تدلّ على نفي الحرج بالنسبة إلى الأحكام التكليفية فقط أو الأعمّ منها ومن الأحكام الوضعية، فبعد الوقوف على موارد الاستدلال نصل إلى نتيجة معيّنة واضحة. نعم لانعتقد بأنّ هذا الأمر هو الطريق الوحيد لفهم مدلول هذه القواعد بل نقول بأنّ هذا يوجب قرب الذهن إلى واقعها، وبالجملة لابدّ من فهم الموارد والجزئيّات والمصاديق الّتي قد طبّقت القاعدة عليها حتّى نطمئنّ بكيفيّة دلالتها ودائرة إفادتها فلامناص من تحقيق جميع المصاديق بالنسبة إلى جميع القواعد.
و من القواعد المهمّة الّتي لها أثر بالغ كبير في جميع أبواب الفقة قاعدة تعارض الأصل والظاهر وأنّه هل يتقدّم الظاهر على الأصل في جميع الموارد أو العكس أو التفصيل بين الموارد ونحن نرى أنّ الفقهاء في بعض الموارد يقدّمون الأصل على الظاهر وفي موارد اُخرى ذهبوا إلى عكس هذا، فلابدّ من التحقيق في مصاديقها لكي نعلم الضابطة الأساسيّة المهمّة في هذه القاعدة.
و قد أسّسنا في مركز الفقه الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) الّذي هو اليوم من أبرز المراكز التحقيقيّة والتعليميّة والتخصّصيّة حول الفقة والاُصول والعلوم المرتبطة بهما، لجنة خاصّة لأجل هذا الأمر العظيم والكتاب الّذي بين أيديكم من ثمرات جهود العالم الفاضل حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ إبراهيم البهشتي الدامغاني «دامت إفاضاته» حول الفروع الّتي تمسّك الفقهاء فيها بهذه القاعدة فنأمل أن ينفع المحقّقين ونشكره على هذا الجهد العلمي كما أنّي أشكر ممّن صاحبه ورافقه لتكميل هذا البحث وأيضاً من راجع الكتاب وتنبّه إلى نكات لازمة كما أنّ اللازم التقدير من مدير المركز سماحة العلاّمة حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ محمّدرضا الفاضل القاساني نسئل الله تبارك وتعالى أن يوفّقنا لتكميل هذا وأن يديم في توفيقاتنا لخدمة الدين والعلم والفضلاء والمؤمنين وأن تكون أعمالنا مرضيّاً لمولانا وصاحبنا حجّة بن الحسن العسكري «عجّل الله تعالى فرجه الشريف».
مركز فقه الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)
محمّدجواد الفاضل اللنكرانى
رمضان المبارك 1427 هـ. ق -
مقدمه:
الحمد لله على ما أنعم، والشكر على ما ألهم، والصلاة والسلام على سيّد العرب والعجم محمّد المبعوث إلى كافّة الأُمم، وعلى آله الذين نطق بمدحهم الكتاب والقلم، سيّما بقيّة الله الأعظم السيّد المؤمَّل، والإمام المنتظر، والعدل المشتهر الحجّة بن الحسن العسكريّ عجّل الله تعالى فرجه الشريف .
وبعد :
فقد جرت عادة المؤلِّفين على أن يقدّموا لمصنّفاتهم مقدّمة تشتمل على أُمور تختصّ بنفس الموضوع الذي جرى عليه الكتاب، حيث يحاول الكاتب أن ينبّه على كلّ ما يرفع الالتباس ويزيح الحجاب كيما يدخل القارئ إلى الموضوع، وهو على بصيرة من أمره، وقد اقتفينا أثرهم بعد جهد المستطاع، فسطرنا هذه المقدّمة وذكرنا اُموراً نحسب أنّها وافية بالغرض، والموفِّق الله جلّ جلاله .
الأمر الأوّل: بيان فضيلة العلم
إعلم أنّه كفى في فضيلة العلم قوله تعالى في سورة العلق ـ وهي أوّل ما نزّل على نبيّنا صلوات الله عليه و على آله في قول أكثر المفسِّرين ـ { اقْرَأْ بِسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الاِْنسَانَ مِنْ عَلَق* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاَْكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الاِْنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}.حيث افتتح كلامه المجيد بذكر نعمة الإيجاد ، وأتبعه بذكر نعمة العلم ، فلو كان بعد نعمة الإيجاد نعمة أعلى من العلم لكانت أجدر بالذكر .
وقد قيل في وجه التناسب بين الآي ـ المذكورة في صدر هذه السورة ، المشتمل بعضها على خلق الإنسان من علق ، وبعضها على تعليمه ما لم يعلم ـ : أنّه تعالى ذكر أوّل حال الإنسان; أعني كونه علقة ، وهي بمكان من الخساسة ، وآخر حاله وهو صيرورته عالماً ، وذلك كمال الرفعة والجلالة . فكأنّه سبحانه قال : كنت في أوّل أمرك في تلك المنزلة الدنيّة الخسيسة ، ثمّ صرت في آخره إلى هذه الدرجة الشريفة النفيسة.
الأمر الثاني: ينبغي للعالم أن يعمل بعلمه يجب على العالم العمل ، كما يجب على غيره ، لكنّه في حقّ العالم آكد ، فروى حفص بن غياث ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : من تعلّم العلم ، وعمل به ، وعلَّم لله ، دُعي في ملكوت السموات عظيماً ، فقيل : تعلّم لله ، وعمل لله ، وعلّم لله.
وفي رواية أُخرى عن سليم بن قيس الهلالي قال : سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يحدّث عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال في كلام له : العلماء رجلان : رجل عالم آخذ بعلمه فهذا ناج ; وعالم تارك لعلمه فهذا هالك ، وأنّ أهل النار ليتأذّون من ريح العالم التارك لعلمه ، وأنّ أشدّ أهل النار ندامةً وحسرةً رجل دعا عبداً إلى الله فاستجاب له وقبل منه فأطاع الله فأدخله الله الجنّة ، وأدخل الدّاعي النّار بتركه علمه واتّباعه الهوى وطول الأمل. أمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ ، وطول الأمل ينسي الآخرة.
الأمر الثالث: ثمرة البحث
بحث تعارض الأصل والظاهر من الموضوعات التي تعمّ به البلوى ويحتاج إليه في موارد كثيرة من الطهارة إلى الحدود والقصاص، خصوصاً في مقام الدعوى ، وبعبارة اُخرى: هذا البحث له بابان: باب في غير الدعوى والإنكار; وباب آخر في الدعوى والإنكار.فامّا الثاني: ففي تمييز المدّعي على المدّعى عليه ; إذ من جملة القواعد المقرّرة في الشرع توجّه البيّنة على المدّعي واليمين على المنكر في مقام الدعوى . ويدلّ على هذه القاعدة ـ مضافاً إلى الإجماع ـ النبوي المشهور : «البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه» الغنيّ عن ملاحظة سنده بعد تلقّي العامّة والخاصّة له بالقبول.
قد اختلفت كلمات فقهائنا الأعلام في هذا المقام أشدّ الاختلاف :
1 ـ المدّعي هو الذي لو ترك الخصومة يترك ، والمنكر هو الذي لا يترك لو ترك .
2 ـ المدّعي هو من يخالف قوله الأصل ، والمنكر هو من يوافق قوله الأصل .
3 ـ المدّعي من يخالف قوله الظاهر ، والمنكر من يوافقه .
4 ـ المدّعي من يدّعى أمراً خفيّاً مطلقاً ، والمنكر من لم يكن في قوله خفاء .
فالمشهور كما قيل الأوّل.
ثمّ إنّ تلك التعاريف تنطبق غالباً على مورد واحد متصادقة عليه ، مثلا لو ادّعى زيد على شخص بدين من غير أهل بلاده ، ولم نعرف له علاقة به ولا صلة معه ، فأنكر الآخر ، فزيد هو المدّعي على جميع التقادير المتقدّمة ، والشخص منكر على كلّ تقدير ، وقد تتنافر في موارد ; مثلا لو ادّعت الزوجة التي تسكن مع زوجها مع يساره وصلاحه أنّه لا ينفق عليها ، فهي مدّعية على الأوّل والثالث، ومنكرة على الثاني والرابع .
والتحقيق المهمّ هنا ليس ترجيح إحدى هذه الضوابط على سائرها ، وإنّما المهمّ شيء أدقّ وأحقّ بالبحث ; وهو أنّ هذين اللّفظين أعني المدّعي والمنكر ليس للشارع فيهما اصطلاح خاصّ ، ولا له فيهما حقيقة شرعيّة حتّى نبحث عن ذلك المعنى المجعول ، وإنّما المراد به المعنى العرفي ، ولا بحث من كون المدّعي من كان يسمّى به عرفاً ، وهذا الاختلاف في تحديد العرف.
قال شيخنا الفقيه الفاضل اللنكراني في المدّعي والمنكر: ينبغي أن يعلم:
أوّلاً: أنّ الشارع الأقدس لا يكون له بالإضافة إليهما اصطلاح خاصّ بصورة الحقيقة الشرعيّة أو المجاز الشرعي; لعدم كون معناهما مستحدثاً بوجه، بل استعماله إنّما يكون كاستعمال الغير.
وثانياً: أنّ المراد من التعاريف بيان الموارد والمصاديق، وإلاّ فاللفظان لا إشكال ولا شبهة فيهما من حيث المادّة والهيئة، ولا اختلاف فيهما من حيث اللغة، وليسا كلفظ «الصعيد» المذكور في آية التيمّم، المردّد بين خصوص التراب الخاصّ أو مطلق وجه الأرض; لاختلاف اللغة في ذلك.
وثالثاً: أولويّة الإيكال إلى العرف، كسائر الموضوعات العرفية التي لا يكون فيها اصطلاح خاصّ ولو مجازاً.
ورابعاً: أنّ الملاك في ذلك طرح الدعوى ومصبّها، وقد عرفت في بعض المسائل السابقة أنّ من عنده الوديعة وقد أدّاها، لو ادّعى أداء الأمانة وردّها يكون مدّعياً، ولو قال: بأنّه ليس شيء بعنوان الأمانة لزيد موجوداً عنده يصير منكراً، فتدبّر.
إذن، الذي فهمناه من العرف أنّ بناء العرف على اعتبار نوع خفاء في مفهوم الدعوى ، ولذلك يحتاج إلى الإثبات ، وإلاّ فالشيء الذي لا خفاء فيه لا يحتاج إلى إثبات ، بل هو مجبول في الطباع ما لم يمنع منه مانع ، ولا ريب أنّ الخفاء لا يكون إلاّ لمخالفته لأصل أو ظاهر . نعم ، إذا كان الملاك لحاظ الأصل أو الظاهر فيشكل الأمر في صورة تعارضهما.
وهنا تظهر ثمرة بحث تعارض الأصل والظاهر في باب الدعاوى; لأنّه إذا
كان قوله مخالفاً للأصل والظاهر فلا كلام في كونه مدّعياً ، وإذا كان قوله مخالفاً للأصل وموافقاً للظاهر ، فهذا مدّعي إن قدّمنا الأصل على الظاهر في مقام التعارض ، والذي يكون قوله موافقاً للظاهر هو المدّعى عليه ،
وإن قدّمنا الظاهر على الأصل فهذا مدّعى عليه، والذي يكون قوله موافقاً للأصل هو المدّعي .ولتوضيح ذلك نذكر أمثلة:
1ـ إذا ادّعت الزوجة بعد طول بقائها مع الزوج ويساره، أنّه لم يوصلها النفقة الواجبة، وادّعى هو الإنفاق، فوجهان: والزوج مدّعي بناءً على أنّ المدّعي من يخالف قوله الأصل والزوجة المدّعى عليه; لأنّ الأصل معها ويقدَّم قولها بيمينها. وأمّا بناءً على كون المدّعي من يخالف قوله الظاهر فهي مدّعية; لأنّ قولها مخالف للظاهر والعادة، وشاهد الحال من أنّه أنفق عليها، والزوج المدّعى عليه; لأنّ الظاهر معه ويقدَّم قوله مع يمينه.
2ـ متى خلا الرجل بامرأته خلوة تامّة، ثمّ اختلفا في الدخول فادّعت المواقعة، فأنكره، ففي تقديم قول أحدهما وجهان بل قولان: فقال عدّة من الأعاظم: القول قول الرجل مع يمينه; لأنّ الأصل عدم المواقعة، فهو منكر والمرأة مدّعية; لأنّ قولها موافق للأصل على تعريف.
وقال بعض آخر: إنّ القول قولها عملاً بشاهد حال الصحيح في خلوته بالحلائل مع عدم الموانع، فهي منكرة والزوج مدّعي وقوله مخالف للظاهر على تعريف آخر.
3ـ إذا تنازع البائع والمشتري في عيب المتاع بعد القبض، فقال المشتري: هذا العيب كان عند البائع فلي خيار العيب وردّه، وأنكر البائع، وشاهد الحال ـ الّذي يفيد الظنّ لا القطع ـ مع المشتري، ففي تقديم قول البائع أو المشتري وجهان، بل قولان:أحدهما: تقديم قول البائع مع اليمين.
ثانيهما: تقديم قول المشتري مع يمينه.
4ـ إذا أسلم الزوجان قبل الدخول، وقال الزوج: أسلمنا معاً، فنحن على نكاحنا، وقالت الزوجة: بل على التعاقب، فلا نكاح، فوجهان:
أحدهما: القول قول الزوج; لأنّ الأصل معه، والأصل بقاء الزوجية وعدم الانفساخ بالإسلام حتى يتحقّق الموجب; وهو بتحقّق الإسلام متعاقباً، والأصل عدمه;
والثاني: القول قول الزوجة; لأنّ الظاهر معها; إذ وقوع إسلامهما معاً في آن واحد نادر، والظاهر عدم المقارنة.
و أمّا الباب الأوّل: فهو باب في تمييز وظيفة شخصيّة أو نوعيّة في مقام العمل; سواء قلنا: إنّ باب الدعاوي مع هذا الباب متلازمان، أم لا؟ فمن قال: بعدم التلازم يمكن أن يقال في باب الدعاوى: المدّعي من يخالف قوله الظاهر ويقدّم قول المنكر مع يمينه; لأنّ قوله موافق للظاهر، و في تعارض الأصل والظاهر في تمييز وظيفة شخصيّة، بتقديم الأصل على الظاهر.
أو بالعكس بأن يقال في تعريف المدّعي: المدّعي من يخالف قوله الأصل ويقدَّم قول من يوافق الأصل و في باب التعارض في غير الدعاوي بتقديم الظاهر على الأصل.
فأمّا من قال بالتلازم، وقال في تعريف المدّعي: إنّه من يخالف قوله الظاهر، وقدّم قول من يوافق الظاهر على الأصل في الدعاوى، فيقدّم الظاهر على الأصل في غير باب الدعاوي أيضاً أو بالعكس بأن قال: المدّعي من يخالف قوله للأصل، وقدّم قول من يوافق الأصل في الدعاوي، يقدّم الأصل على الظاهر في غير باب الدعاوي.
ولتوضيح هذا الباب نذكر أمثلة أيضاً:
1ـ إذا خرج من بيت الخلاء من كان عادته الاستنجاء، ثمّ شكّ في أنّه استنجى أم لا، فيه وجهان: إذ الظاهر غالباً أنّه يستنجي، والأصل عدمه; فيتعارض الأصل والظاهر.
2ـ إذا وجد المنيّ في الثوب المختصّ به ثمّ شكّ في كونه من جنابة سابقة تطهّر لها، أو من جنابة حادثة، ففيه وجهان:
الوجه الأوّل: كونه سبباً شرعيّاً ظاهريّاً للجنابة، فيجب عليه الغسل كما عليه المحقّق الكركي ومشهور المتأخّرين منه.
الوجه الثاني: أنّ الأصل الطهارة وعدم الخروج عن يقين الطهارة بمجرّد الشك، كما عليه الشيخ الأنصاري و الإمام الخميني والفاضل اللنكرانى.
3ـ إذا شكّ في الطهارة بعد البول والحدث من كان عادته الطهارة والوضوء بعده، ففيه وجهان: إذ الظاهر غالباً أنّه مع الوضوء، واستصحاب الحدث عدمه، فيجب عليه الوضوء.
4ـ إذا كان معه إناءان، فوقع في واحد منهما نجاسة فاشتبه الملاقى يجب عليه أن يجتنب منهما، وإذا أخبره عدل بأنّ النجس أحدهما، ففي وجوب القبول منه أو عدمه وجهان: الأصل يقتضي عدمه، والظاهر يقتضي القبول.
5 ـ وما يوجد في المسجد الحرام أو بعض المساجد أو المشاهد المشرّفة من النعال في طول الزمان ومالكها مجهول، ففيه وجهان: من ظاهر الحال أنّهم أعرضوا عنها وأنّها كالتالف، فيجوز أخذها وتملكّها وتمليكها; ومن أنّ الأصل عدم إعراضهم عنها.
6ـ لا إشكال في إجراء أحكام الشهيد على من وجد فيه أثر القتل من المسلمين في المعركة، أمّا من لم يوجد فيه ذلك ففيه قولان:
الأوّل: أنّه كذلك عملاً بظاهر الحال; لعدم انحصار القتل بما ظهر أثره، كما عن الشيخ والمحقّق والعلاّمة.
الثاني: عدم الإلحاق، لأصالة وجوب تغسيل الأموات مع الشكّ في تحقّق الشرط هنا، كما عن ابن الجنيد وصاحبي الحدائق والجواهر.
الأمر الرابع: أهمّية الموضوع
لا يخفى على المتضلّع في البحوث الفقهيّة أنّ هذا البحث ممّا له دور كبير في الفقه الإسلامي; يعرف ذلك كلّ من مارس النشاطات الفقهيّة و زاولها برهةً من الزمن .كماأنّه من الأبحاث التي أصبحت مثارالخلاف بين الفقهاء حتّى أنّ الفقيه الواحد قد يتعرّض لمسألة فيفتي فيها بتقديم الظاهر على الأصل ، ويفتي على خلاف ذلك في نفس المسألة عندما يطرحها في موضع آخر. يقول الشيخ في نفقات المبسوط ـ في مسألة توافق الزوجين على المهر واختلافهما بعد تسليم نفسهما في قبض المهر ـ القول قولها عندبعضهم ، وقال بعضهم : القول قول الزوج ; لأنّ الظاهر يشهد له ; فإنّ العرف أنّها ما سلّمت نفسها حتّى قبضت المهر ، وبهذا تشهد روايات أصحابنا.
ويقول في نفقات الخلاف أيضاً : إنّ القول قول الزوج وعليها البيّنة . . . دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، وأيضاً فإنّ العادة جارية بأنّها لا تمكّن من الدخول إلاّ بعد أن تستوفي المهر ، فإذا ادّعت خلاف العرف والعادة فعليها البيّنة.
لكنّه خالف ما هاهنا في صداق المبسوط والخلاف.
حيث قال في الخلاف : إذا اختلف الزوجان في قبض المهر فقال الزوج : قد أقبضتك المهر ، وقالت : ما قبضته ، فالقول قولها ; سواء كان قبل الزفاف أو بعده ، قبل الدخول بها أو بعده . . . دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، وأيضاً قول النبيّ (صلى الله عليه وآله) : «البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه». والزوج قد اعترف بالمهر وادّعى أنّه قد أقبض ، فعليه البيّنة ، وإلاّ فعليها اليمين(1) .
وكيف كان; فإنّ هذه المسألة من تعارض الأصل والظاهر .
وهو رحمه الله تعالى وإن لم يصرّح بذلك، لكنّه بالفعل قدّم أصالة عدم الإقباض في كتاب النفقات، والعادة والعرف في كتاب الصلاة .
وهكذا العلاّمة (قدس سره) ، حيث أفتى في التذكرة في من وجد في المعركة ميّتاً وليس به أثر القتل، فهو بحكم الشهيد فلا يغسل ولا يكفّن(2) .
وقال في المنتهى : إنّه ليس بشهيد(3) .
الأمر الخامس : تاريخ البحث ونشأته في الفقه
يعود تاريخ بحث تعارض الأصل والظاهر إلى زمن الفقهاء المتقدّمين; فإنّهم وإن لم يتعرّضوا له في كتبهم بهذا العنوان الخاصّ، غير أنّهم اعتمدوا عليه في أحكام كثيرة من موارد التعارض . أمثال ابن الجنيد والشيخ ومن تأخّر عنه، كالمحقّق الحلّي والعلاّمة .إلاّ أنّ أوّل من طرح الموضوع بهذه الصياغة وعنونه بهذا العنوان هو الشهيد الأوّل (قدس سره) (م786هـ ) .
لكنّ البحث ـ كما ذكرنا ـ يعود إلى المتقدّمين; إذ نجد بذرة هذه الثمرة إنّما كانت
مطروحة على ألسنتهم ومتداولة في مصنّفاتهم .ولا بأس بذكر أُنموذج من تعرّضهم لذلك خلال كلماتهم لتزداد بصيرة في الأمر ، وسوف تلاحظ الكثير من مثل هذه الشواهد في كتابنا هذا .
يقول الفقهاء في الشهيد :أنّه لو مات الشهيد في المعركة لايغسّل ولا يكفّن ، بل يصلّى عليه عند علمائنا; لأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) هكذا فعل وأمر بدفن شهداء أُحد من غير تغسيل ولا كفن، وقال : «زمّلوهم بدمائهم».
وإنّما وقع الخلاف في مَن وجد في المعركة ميّت وليس به أثر قتل . فعن الشيخ في المبسوط والخلاف ، والمحقّق في المعتبر ، والعلاّمة في التذكرة حكمه حكم الشهيد أيضاً; لأنّ ظاهر الحال أنّه شهيد، وأنّ القتل يحصل بما له أثر وبما ليس له أثر ، فالحكم لظاهر الحال.
وعن ابن الجنيد: أنّه غير شهيد . وتبعه العلاّمة في المنتهى وصاحب الجواهر. وقال صاحب الحدائق : إنّ مذهب ابن الجنيد هو الأوفق بالقواعد
الشرعيّة; لأنّ الشهيد من وجد به أثر فعل من عدوّه الذي كان به خروج نفسه ظلماً ، ومن لم يوجد به أثر ذلك شك في شرط سقوط الغسل وهو القتل; لجواز
موته إلى غير القتل، فلا يثبت المعلول.وعن ظاهر الشهيدين في الذكرى والروض : التوقّف، حيث اقتصرا على نقل الخلاف.
والحاصل: أنّا لم نجد من أفرد البحث عن هذا الموضوع في رسالة أو مصنّف خاصّ ; سواء على صعيد الفقه العامّي أو الشيعي .
وإنّما طرح خلال الأبحاث الفقهيّة استطراداً وحيثما مسّت الحاجة إليه . وأكثر من تعرّض إليه من علمائنا الشهيد الثاني في تمهيد القواعد، والميرزا القمّي في جامع الشتات .
ومن العامّة : الندوي في القواعد الفقهيّة ، والسلمي في قواعد الأحكام ، والزركشي في المنثور، وابن رجب في قواعد الفقه الإسلامي .
وأخيراً :
حيث منَّ الله جلّ جلاله علينا بإنجاز هذا العقد الفريد الموسوم (بالذخر الفاخر في تعارض الأصل والظاهر) المشتمل على ثلاثة فصول:
الفصل الأوّل: مفردات الموضوع وموارد استعمالها .
الفصل الثاني: إعتبار الأصول والظواهر .
الفصل الثالث: تحرير محلّ النزاع وأقوال الفقهاء .
لا يسعني إلاّ أن أتقدّم بالشكر الوافي والثناء الجميل إلى سماحة المرجع الديني الكبير الشيخ الفاضل اللنكراني دام ظلّه العالي الّذي امر بتأسيس مركز فقه الأئمّة الأطهار ونجله العلاّمة الفقيه الحجّة الشيخ محمّد جواد الفاضل ، و المدير للمركز الفقهى حجة الاسلام والمسلمين الشيخ محمّدرضا الفاضل القاسانى، حيث حثّوا من بداية الأمر وألحّوا عليَّ لإكمال هذا العمل العلمي الُمجهِد وإخراجه
إلى عالَم النور .فقد ساعدني ووازرني بإخراج هذا الكتاب إلى منصّة الظهور عدّة من الفضلاء والمحقّقين، منهم :
حجج الإسلام محمّدتقي الشهيدي، ومحمّد القائيني، ورضا المختاري، والشيخ حسين الواثقى، والدكتور جليل القنواتي في المشاورة ، وحجج الإسلام الشيخ عباد الله السرشار الطهراني الميانجي، و خيرالله محمّدى في المقابلة و المراجعة النهائية، وحجّة الإسلام السيّد محمّدحسن الموسوي الآباداني في تهذيب و تقويم النصّ ، فأشكرهم جزيل الشكر ، وأسأل الله تعالى لي ولهم التوفيق لمرضاته ، والحصول على جواز الدخول في جنّاته مع مرافقة الأنبياء الأبرار والأئمّة الأطهار (عليهم السلام) والصلحاء والأخيار .
ورجائي من العلماء الأفاضل أن يمنّوا عليّ بما ينقدح في أذهانهم من نقد واعتراض أو أُطروحة تؤدّي إلى تطوير هذا العمل وتنتهي إلى تكميله .
ذلك لأنّه يعدّ الخطوة الأُولى في هذه الأبحاث ، فلا ندّعي خلوّه من عيب أو خلل أو عثرة من قلم أو زلل ، والعصمة لأهلها صلوات الله تعالى عليهم .
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين .
إبراهيم البهشتي الدامغاني
7 جمادى الثاني 1427هـ